حين نرحل لا تتركنا الأماكن التي أحببناها أو عشنا فيها؛ فهي تظل عالقة في ذاكرتنا، تتحول إلى حمولة ثقيلة تنبعث من الذكريات والمشاعر. ومع كل تغير جديد، نجد أنفسنا مستسلمين لقوة الأماكن، ليس بحكم الحاجة فقط، بل كنوع من الطاعة القيمية التي تمليها علينا ذواتنا.
الأماكن، سواء في ألفتها أو في وحشيتها، تعيد إنتاج حضورها عبر ذواتنا المليئة بالإرث الثقافي والتراثي. وحتى حين نحاول تجاهلها أو كتم أصواتها، فإنها تبقى شاهدة على استمرارية الزمن. ومع كل انتقال من مكان إلى آخر، يبدأ صراع داخلي بين ماضٍ يشدنا إليه وحاضر يفرض نفسه علينا، لتصبح الأماكن شاهداً على هويتنا وعلى تناقضات وجودنا.
في روايتها «خاتم سُليمى» تفتح الكاتبة السورية ريما بالي نافذة عميقة على تناقضات الحياة الإنسانية، من خلال بناء سردي يمزج بين الواقعية والخيال، التاريخ والتراث، الماضي والحاضر. الرواية ليست مجرد حكاية، بل هي نص ثري بالتساؤلات حول علاقة الثنائيات الحب والجذور، التقاليد والتمرد، الوطن والمستقبل، التمسك والتخلي.
تقدم الرواية إجابات على مستويين: الأول عبر النص ذاته، والثاني عبر القارئ الذي يصنع تفسيره الخاص. وهذا التداخل بين النص والقارئ يجعل الرواية تجربة تفاعلية، تتجاوز حدود القراءة العادية إلى التأمل الفلسفي.
الخاتم في الرواية ليس مجرد عنصر مادي، بل هو بطل متخفٍ يحمل دلالات رمزية عميقة. ريما بالي تخرجه من ماديته إلى بعده الروحاني، ليصبح جسراً بين الماضي والحاضر، وبين الشخصيات وزمنها المختلف.
السرد في الرواية يعكس بُعداً تراثياً واضحاً، يربط بين عالم الأحياء وعالم الأموات، مما يخلق فضاءً سردياً يزيل الحواجز بين الأزمنة. وهكذا يتحول الخاتم إلى نقطة محورية تجمع بين حكايات الأبطال وتاريخ مدينة حلب، التي تعتبر الحاضنة الأساسية لأحداث الرواية.
تمثل حلب في الرواية ليس فقط مكاناً للأحداث، بل روحاً حاضرة تؤطر السرد بأكمله. ريما بالي، التي عاشت في المنفى هرباً من أهوال الحرب، تعيد تصوير مدينتها كمزيج من ماضٍ حضاري غني وحاضر مأساوي.
الرواية تأخذنا في رحلة عبر شوارع حلب ومعالمها، تجعلنا نعيش حنينًا لماضي المدينة، ونشعر بالألم لحاضرها. عبر هذا الوصف، تعيد الكاتبة بناء ذاكرة حلب باعتبارها رمزاً للصمود والجمال، وتجعل القارئ يتأمل في مصير المدينة وسوريا بأكملها.
من خلال الشخصيات الرئيسية: سلمى العطار، الموسيقار الإيطالي شمس الدين، والمصور الإسباني لوكاس أورتيز، تناقش الرواية فكرة التعايش مع الآخر، وقبول الاختلاف الثقافي والديني. الكاتبة تستخدم هذه الشخصيات لطرح رؤية صوفية للتسامح، حيث تتحول العلاقة بين الأديان والثقافات إلى مساحة للحوار والاحتواء.
القصة تسلط الضوء على تقاطعات بين الثقافات المختلفة، بين حلب وتوليدو، وبين التراث الإسلامي والمسيحي واليهودي. في هذا السياق، تبرز الرواية أهمية الصوفية كمدخل لفهم الآخر، بعيداً عن التعصب الديني.
«خاتم سُليمى» ليست مجرد رواية عن الحب أو الحرب، بل هي نص يحمل في طياته أبعاداً إنسانية وفلسفية عميقة. من خلال السرد العجائبي والتأملات الفلسفية، تدعو ريما بالي القارئ إلى إعادة النظر في علاقته بالماضي، وبالآخر، وبالحقيقة ذاتها.
هذه الرواية تمثل شهادة على قدرة الأدب على تجاوز حدود المكان والزمان، لتصبح حلب رمزاً لكل مدن العالم التي تعاني من الحرب والصراعات. وختاماً، يمكن القول إن «خاتم سُليمى» رواية تجمع بين جمال الأسلوب وعمق الفكرة، لتبقى شاهداً على تاريخ حلب، وعلى قوة الإنسان في مواجهة المآسي.